يوميات نازح … لحظات لا تنسى

2020-06-10

نباح كلاب.. برد قارس… عتمة موحشة… صوت رياح الشتاء وحفيف بقايا أشجار حديقة منزلنا.. صور امتزجت لتضيف إلى أصوات الدمار أجواء رعب وحزن…

مقلتي طفلتي تسنيم يغلفهما الخوف وهي جالسة عند مدفأة الحطب… طفلي الصغير نائم وغير مبال بما يدور في عالمنا الموحش… فتحت زوجتي باب المدفئة وزودتها بقطعة من الحطب وأغلقتها وقالت “يكاد أن ينفد الحطب… ماذا نحن فاعلون؟ اقتربت أكثر من المدفئة، أخذت تفرك يديها قرب المدفأة وقالت: الحمد لله حالنا أفضل من غيرنا، ما زالت هناك أشجار بحديقة منزلنا، جيراننا يستعملون أحذية وملابس لإشعال النار، عمي أحرق غرفة نومه ليجلب الدفء ولطبخ الطعام.

* * * * * * * * * *

تحلقنا حول الطعام …محمد، هل سيبقى نائماً.. ألن يتناول الطعام معنا… أتركه، إنه يغط في نومٍ عميق… الحساء ساخن ويمنح دفئا ومذاقه لذيذ رغم قلة اللحم فيه..

هل سكبتِ إلى جيراننا؟ نعم وقد أهدتني جارتي أرغفةً من خبز القمح… حقاً! الحمد لله، جارتي تقول إن المعونة وصلت من قطر. وربما سيأتون لنا بسلة غذائية..  اغرورقت عيناي …  أتذكرين كيف كنا قبل الأزمة نوزع السلال الغذائية على الفقراء واليوم ننتظر تلك السلال.  بحرقة قالت زوجتي: محمد وتسنيم فقدا من وزنهما بسبب قلة الغذاء. قلت لها الصبر وتنهدت قائلة بلادنا دخلت في نفق مظلم رددت عليها نصبر كما صبر رسول الله حين حاصره الكفار في شعاب مكة..

* * * * * * * * * *

فجأة شقّ أصوات دوي صمت الليل فأحاله إلى رعب… هرعت ابنتي إلى حضني بينما انكبت زوجتي على طفلنا محمد… قالت له أمه.. لا تخف حبيبي…ابنتي الصغيرة بدأت تصرخ.. بدأنا نردد أذكارا.. بيننا وبين الموت خطوات..

أصوات دوى أخرى  و تطايرت الحجارة والشظايا في كل مكان… شعرت أنني فقدت السمع.. رماد المدفأة تطاير في أرجاء الغرفة.. رفعتْ زوجتي رأسها وقد أصيبتْ بما يشبه الانهيار العصبي.. ترتجف وتنادي محمد.. تسنيم.. هل أنتما بخير؟

* * * * * * * * * *

أشعلتُ شمعة.. مدفأة الحطب صامدة في مكانها..  فتحتُ باب القبو الذي لم يعد بالإمكان إغلاقه، وهممتُ بالخروج. ناولتني زوجتي القفازات وقالت إلى أين؟  قلتُ لها: ألا تسمعين استغاثة جيراننا، لقد تدمر بيتهم ويجب الإسراع لانتشالهم! أمسكتْ زوجتي بذراعي بقوة: انتبه جيداً بنفسك… ربما يعود الخطر…

قطع كلامها صوت سيارة الإسعاف ورجال الإطفاء… ركضتُ وإذ بي أتعثر فأقع أرضاً… يا إلهي؟ سلطتُ الضوء على ما تعثرت فيه ويا هول ما رأيت! إنه جارنا.. موظف الإغاثة.. شعرتُ أن الأرض تدور بي.. هززته… عمر يا جاري الطيب.. سمعته وهو يتمتم بكلمات لم أفهم منها إلا كلمة واحدة، هي الله.. جسده مغطى بالدماء…

هناك أجزاء مفقودة منه.. يده؟  رجله؟ ماذا أتى به إلى الشارع؟ لابد إنه ضغط الانفجار؟ أيعقل أن يُقتل من يغيث الناس… لابد أن الطائرة رصدت سيارته، وهو عائد إلى بيته… حمله رجال الإسعاف والكل يبكي.. كان يقابل الناس بابتسامة وهو يقدم لهم المعونة.. كان رجلاً أميناً وما كان في بيته من الطعام أكثر مما كان في بيوت الناس..

نظرتُ إلى بيته فإذا هو ركام، أخرج رجال الإطفاء أولاد جاري وزوجته من تحت الركام أشلاء… رائحة الموت تفوح في المكان… تساءلت. هل يدري ذلك الطيار ماذا فعل؟ أم أنه فقد الإحساس؟

* * * * * * * * * *

رجعتُ إلى القبو الذي أسكنه تحت بيتي الفخم الذي بنيته وتركته لأعيش في هذا القبو؟ نظرتُ إلى سيارتي التي تحطمت… يعتصرني الحزن كيف سأخبرهم بموت جيراننا… لا لن أخبرهم سأقول إنهم بخير وغداً صباحا سيعرفون…

نظرت إلى زوجتي نظرة المستفهم قلتُ وقد أشحت بوجهي عنها إنهم بخير… جروح طفيفة.. وفجأة سمعتُ صوت أخي الصغير مناديا: هل أنتم بخير؟ جارنا الطيب عمر مات هو و عائلته.

دفنتْ زوجتي وجهها بين كفيها وانخرطتْ في نوبة بكاء… قلتُ لها.. سأخرج لأشارك في الدفن… وقفتْ أمام الباب وبحدة قالت لي، لن تخرج… قلت لها يجب أن أحضر دفنه… قالت.. لا تذهب… رجال الإسعاف سيتولون أمر دفنه… لا تترك الخوف يحاصرنا..

* * * * * * * * * *

أكثر الناس غادروا إلى تركيا.. قالتها زوجتي.. قاطعتها. تحدثت من قبل في هذا الأمر، أنا أحبُ تركيا ولكن هذه أرضنا لن أخرج منها.. قاطعتني غاضبة.. أرضك؟ أرضك لا أمان فيها… انظر إلى عيون أطفالنا الحزينة.. وانظر لصور أبناء أختي في تركيا التي نزحوا إليها منذ ثلاثة أشهر.. الان هم في المدرسة …

قطع حديثها صوت دوي مجنون… شعرتُ أن هناك زلزالاً… تطايرنا.. كل شيء أصبح حطاماً.. نظرتُ إلى باب القبو والنوافذ… كنتُ أتحسس الجدار بحثاً عن أولادي وزوجتي… أسمع صراخ أطفالي وزوجتي ..كنا كالسكارى…، تحسستهم .. محمد.. تسنيم هل أنت بخير؟ بطرف ثوبها مسحت زوجتي وجوهم… ثم نظرتْ إلي بذهول وهي تبكي.. أنتَ مصاب….. هل تستطيع القيادة؟ قلت لها.. سأحاول… صوت سيارة الإسعاف يقترب منا عندما خرجنا من البيت..

فجأة وضعت زوجتي يدها على بطنها وهي تصرخ ألما.. وبرعب نظرتُ إليها… جنينها في خطر…

أسرعت سيارة الإسعاف إلى المركز الطبي، زوجتي تتلوى من الألم، وفي عيون أولادي تطير غربان الرعب، أمسكتْ بيدي وقالت لو قدر الله الأسوأ أولادي أمانة في عنقك، ربت ُعلى كتفها وقلت لها ستعيشين.

* * * * * * * * * *

شقت الطبيبة النسائية طريقها إلي .. وبلهفة سألتها ماذا عن زوجتي؟ قالت الجنين في وضع حرج .. معنا بضع ساعات لإنقاذه ويحتاج حاضنة مناسبة، ما الحل هل ننقلها إلى تركيا؟ قالت إن سيارة الإسعاف لا تستطيع الذهاب الى هناك الوضع حولنا خطر..

تدخل أخي وقال سأخذكم بسيارتي ولا تخف أنا أعرف الطريق جيدا، قلت له كم يستغرق الوقت قال نحو ساعة وبذهول قالت الطبيبة، هذا قرار غير حكيم، قلت لها، توكلنا على الله، وانطلقت بنا السيارة.

كان البرد قارسا والطريق موحشا يغمره الظلام. تناهى إلى سمعنا صوت خطر قادم وبقلق شديد قلت له ماذا سنفعل؟ أشار إلى شجرة تين ضخمة بجانب الطريق وقال سنمكث تحتها. اختفى صوت الخطر من حولنا وانطلقنا.. زوجتي كانت فاقدة الوعي… تحركنا وبدأت أنوار المعبر التركي تلوح لنا…

ثلاث ساعات ونصف زمن الرحلة.. وصلنا المعبر وكان إحساسنا مفعما بالفرح، عند المعبر تم طلب سيارة اسعاف لنا لنصل أخيرا وتكتب السلامة لنا وينجو الجنين من الخطر وننجو من دوامة الرعب التي كنا نعيش فيها.

المقال منشور في العدد 22 من مجلة غراس

يمكنك تحميل نسختك الآن أو الإطلاع على مقالات أخرى من المجلة

مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.