من روائع تألق المسلمين في كفالة الأيتام (2)

2020-11-22

مع تنامي رقعة الدولة الإسلامية واتساعها، ظهرت الحاجة الماسة لتطوير آليات رعاية الأيتام، فبرزت أهمية تنظيم رعاية وكفالة الأيتام في الجوانب التعليمية، والتربوية، وتقديم الرعاية الصحية لهم، بما يشبه عمل المدارس والدور النظامية. أين كان يتم تخصيص الأوقاف لها؛ حتى يستمر خيرها ويدوم عطاؤها.

تشييد المراكز وتخصيص الأوقاف لتعليم ورعاية الأيتام

وقد كانت البداية في تلك الإضافة النوعية في عهد الوليد بن عبد الملك. حيث اهتم هذا الخليفة الأموي بتوفير مراكز لتعليم الأيتام. كما فرغ لهم المعلمين والمؤدبين الذين يهتمون بتعليمهم، وتربيتهم التربية الجيدة، بما يشبه ما تقوم به دور أو مراكز لرعاية الأيتام في عصرنا. كما اهتم بذوي الاحتياجات الخاصة، والمرضى، ووظف لهم أطباء مشرفين، وخدماً يقومون بخدمتهم.

واهتم كذلك بالضعفة والمساكين. وبل وخصص لجميع هؤلاء رواتب، وقال لهم: “لا تسألوا الناس”. فأغناهم بذلك عن السؤال.

ثم جاء عصر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. وقد تم في عهده إنشاء أول ديوان للأوقاف التي كانت تسمى الأحباس. وكانت هذه فكرة القاضي توبة بن نمر الحضرمي، وذلك لحفظها من الاختلاط بغيرها من الأموال التي يرثها ورثة من أوقفها. لأن الأوقاف كانت في أيدي أهلها وأوصيائهم. فلم يمت توبة حتى صار للأحباس ديوان عظيم، وذلك في سنة 118هـ.

وقد ترتب على ذلك استحداث جملة من الوظائف الإدارية، ومن أهمها وظيفة ناظر الأيتام، وهو ما يجده الباحث في تراجم وسير علماء وقضاة المسلمين في الكتب التي ترجمت لهم؛ مثل كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، وكتاب رفع الإصر عن قضاة مصر للحافظ ابن حجر لعسقلاني، وغيرها.

وكانت تلك الوظيفة توكل إلى القضاة الأمناء، الأكفاء. يتولون من خلالها الإشراف على الأيتام وأموالهم، والأوقاف التي كانت لهم. إضافة إلى تعيين الأوصياء الذين توكل إليهم الرعاية المباشرة للأيتام، وفق شروط دقيقة، مأخوذة من منظومة التشريع الإسلامي.


https://twitter.com/qcharity/status/1330453381652082694

مشاهير خلّدوا روائع في رعاية الأيتام

وهكذا كلما جاء عصر تطور أسلوب الاهتمام برعاية الأيتام. ويعد الأمير نور زنكي من أعظم من اشتهر عنه الاهتمام بالأيتام. فأوقف الأوقاف الكبيرة، وبنى المكاتب العلمية لتعليم الأيتام سنة 569هـ، ووظف المعلمين لهم. كما اعتمد للمعلمين والأيتام الرواتب والكسوة. وأقام الأوقاف التي كانت تصرف على جميع أبواب الخير وبالذات الأرامل، والمحتاجين.

ومن الشخصيات المشهورة أيضاً التي خلّدت روائع في كفالة الأيتام ورعايهم الأمير ركن الدين الظاهر بيبرس. حيث بنى هذا الأمير عددًا من المؤسسات التعليمية. فأنشأ المدرسة الظاهرية بالقاهرة سنة 660هـ الموافق 1262م، واستغرق بناؤها عامين. وأوقف عليها الحوانيت وهي الدكاكين الكثيرة التي كانت تدر الأموال. وجعل بها خزانة كتب كبيرة، وألحق بها مكتبًا لتعليم الأيتام ورتب لهم الرواتب، والخبز في كل يوم، وكسوة في فصلي الشتاء والصيف، وغير ذلك.

ومن رواد المسلمين في رعاية الأيتام أيضاً الأمير آق سنقر الناصريّ. حيث بنى جامعاً قريباً من قلعة الجبل في القاهرة. وأنشأ بجانبه مكتباً لإقراء أيتام المسلمين القرآن، وحانوتا لسقي الناس الماء العذب. جعل عليه ضيعة من قرى حلب، تغلّ في السنة مائة وخمسين ألف درهم فضة. كما أقام له سائر ما يحتاج إليه من أرباب الوظائف.

وممن لاحظ عظيم لاهتمام برعاية الأيتام المؤرخ ابن جبير. الذي قال وهو يتكلم عن زيارته لمدينة دمشق: “وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم. وهذا أيضا من أغرب ما يحدّث به من مفاخر هذه البلاد”.

ومن روائع الرعاية والكفالة للأيتام ومن كان في حكمهم، وهم اللقطاء الذين لا يعرف آباؤهم وأمهاتهم، ما قام به السلطان مظفر الدين أبو سعيد كوكبري التركماني. حيث بنى داراً للنساء الأرامل، وداراً لصغار الأيتام، وداراً للقطاء. ووظف المرضعات اللواتي يقمن بإرضاعهم، والعناية بهم.

المبادرات الأهلية

لقد كانت تلك المكاتب والدور ظاهرة لا تخطئها عين الزائر للمدن في بلاد المسلمين. ومن طريف ما يُذكر أن مدينة حلب وحدها كانت تحتوي على أكثر من ثلاثة عشر مكتباً لتعليم الأيتام، ومنها: مكتب درب العدول، وله أوقاف كثيرة، ومكتب الناصري، ومكتب عماد الدين بن الترجمان وله وقف، ومكتب الماس، داخل باب النصر، ومكتب تغري بردي أمام جامعه، وتحته حوض ماء، وله أوقاف، وغيرها.


من برنامج عاون في موسمه الثاني – رمضان 1441 هـ / 2020 م

ولم يقتصر الاهتمام بالأيتام على الدولة فقط، بل كانت المبادرات الأهلية ذات حضور كبير جانب مهم من الروائع التي اهتم بها المسلممون لكفالة وصون كرامة الأيتام، باعتبارها عملاً صالحاً بل من أعظم الأعمال عند الله تعالى. وقد تنوعت تلك المبادرات، ولأجل الاختصار نذكر نموذجين:

الأول: للقاضي الخياط، وهو الإمام الحافظ المحدث أبو عبد الله، محمد بن علي المروزي توفي بعد سنة 320هـ. عُرف بالخياط لأنه كان يخيط على الأيتام والمساكين. فهو وإن لم يتمكن من دفع الأموال، وإيقاف الأوقاف عليها لصالح الأيتام، إلا أنه حقق ما يريده من نيل فضل كفالة اليتيم من خلال ما يمكن له فعله ويحسنه. فكان يسهر الليل، وفي وقت فراغه بالنهار يخيط الثياب للأيتام والضعفاء.

وأما النموذج الثاني فهو: لحسان بن سعيد بن حسان من نسل خالد بن الوليد المخزومي رضي الله عنه. حيث كان من التجار المشهورين بالخير والصلاح، حتى ساد أهل زمانه في الفضل. وكان كثير الصدقة والإحسان إلى الناس. واشته بتجهيز بنات الفقراء الأيتام والقيام بتزويجهن.


من كتاب “رفقاء … أكبر عائلة في العالم” – سلسلة غراس رقم (11) – قطر الخيرية (بتصرف).


مواضيع ذات صلة

تعليقات

اترك أول تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.